تسمم الحمل ليس قدرًا… بل خطر يمكن منعه قبل أن يولد

في كل مرة تموت فيها أم أثناء الولادة، لا نفقد فقط حياة امرأة، بل نفقد أسرة بأكملها ومستقبلًا كان يمكن أن يُبنى ، ورغم التقدم الهائل في الطب، لا تزال بعض الأسباب القديمة تحصد أرواح الأمهات حتى اليوم، وعلى رأسها تسمم الحمل ، القاتل الصامت الذي يختبئ خلف ضغط مرتفع ووجه متورم وجنين في خطر.

تشير الأرقام إلى أن 65٪ من وفيات الأمهات يمكن الوقاية منها، وأن التشخيص المتأخر لتسمم الحمل هو أحد الأسباب الرئيسية لتأخر التدخل.

لكنّ الحقيقة الأعمق أن الخطر لا يبدأ في غرفة الولادة، بل قبلها بشهور… داخل المشيمة نفسها.

 

عندما تبدأ الأزمة من المشيمة
تسمم الحمل ليس مجرد ارتفاع في ضغط الدم أو تورم في الساقين، بل اضطراب شامل في عمل الأوعية الدموية والمشيمة.
المشيمة ، جسر الحياة بين الأم والجنين ، حين لا تتكون بشكل سليم، يقل تدفق الدم، ويبدأ الجسم في سلسلة من التفاعلات التي تنتهي بارتفاع الضغط واضطراب الكلى والكبد والمخ.
ما لا يعرفه كثيرون أن هذه التغيرات تبدأ مبكرًا جدًا، قبل ظهور أي أعراض، وتحديدًا في الأسبوع الحادي عشر أو الثاني عشر من الحمل.
وهنا يظهر مفهوم الطب الحديث: “الوقاية قبل المرض”، لأننا اليوم قادرون على اكتشاف الخلل مبكرًا عبر تحاليل بسيطة من دم الأم.

 

من وقاية الأم إلى برمجة الجنين
الخطورة لا تقف عند حدود الأم فقط ، فعندما تصاب المشيمة بالخلل، لا يتأثر تدفق الدم فحسب، بل يتغير سلوك الجنين نفسه ، فيحاول التكيّف مع بيئة فقيرة بالأكسجين والغذاء.
هذا التكيف قد ينقذ حياته داخل الرحم، لكنه يبرمج جسده بيولوجيًا على نمط غير صحي قد يستمر معه مدى الحياة.
الأبحاث العالمية حول برمجة الجنين تؤكد أن الأطفال الذين تعرضت أمهاتهم لتسمم الحمل أكثر عرضة مستقبلًا للإصابة بارتفاع الضغط، والسمنة، والسكري، وأمراض القلب في سن مبكرة.
بمعنى آخر، تسمم الحمل لا يقتل فقط، بل يترك بصمة تمتد إلى الجيل القادم.

 

الكشف المبكر... مفتاح الوقاية للأم والجنين
في ضوء هذه الحقائق، لم يعد مقبولًا أن ننتظر ظهور الأعراض ، التحليل الذي يُجرى في الأسبوع من 11 إلى 13 من الحمل ، ويقيس مؤشري PAPP-A وPlGF يمنحنا القدرة على اكتشاف الخطر قبل أن يبدأ ،انخفاض هذه المؤشرات يُنبّه إلى أن المشيمة لا تعمل بالكفاءة المطلوبة، مما يسمح للطبيب بالتدخل الوقائي المبكر باستخدام الأسبرين منخفض الجرعة، الذي يمكنه تقليل المضاعفات بنسبة تصل إلى 70٪.
هذه الفحوص لا تحمي الأم فقط، بل تمنح الجنين بيئة صحية في أول مراحل تكوينه، وتقلل من فرص الولادة المبكرة والأطفال المبتسرين.

إن كل جنيه يُستثمر في الوقاية من تسمم الحمل، يعود أضعافًا في صورة أمهات أصحاء وأطفال يولدون أقوى.

 

من رحم الأم تبدأ الجمهورية الجديدة
حين نتحدث عن الوقاية من تسمم الحمل أو الكشف المبكر عن المخاطر، فنحن لا نتحدث عن فحص طبي فحسب، بل عن استثمار في رأس المال البشري منذ لحظة التكوين الأولى داخل الرحم.
هذه هي الرؤية التي يرسخها فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي في بناء الجمهورية الجديدة، التي تضع صحة الإنسان في قلب التنمية، وتؤمن أن الأم السليمة هي أساس وطن قوي.
إن الجمهورية الجديدة تُبنى من رحم أم سليمة… ومن طفل يولد بصحة جيدة.
 
بقلم: ا.د. عمرو حسن
أستاذ أمراض النساء والتوليد – كلية طب جامعة القاهرة

شارك هذا المقال

تعليقات المقال